كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


‏[‏50 ـ 52‏]‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا‏}‏ وقت نومكم بالليل ‏{‏أَوْ نَهَارًا‏}‏ في وقت غفلتكم ‏{‏مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أي بشارة استعجلوا بها‏؟‏ وأي عقاب ابتدروه‏؟‏‏.‏

{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ‏}‏ فإنه لا ينفع الإيمان حين حلول عذاب الله، ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون، ‏{‏الْآنَ‏}‏ تؤمنون في حال الشدة والمشقة‏؟‏ ‏{‏وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ فإن سنة الله في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب، فإذا وقع العذاب لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال تعالى عن فرعون، لما أدركه الغرق ‏{‏قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ وأنه يقال له‏:‏ ‏{‏الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‏}‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ‏}‏ وقال هنا‏:‏ ‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ، آلْآنَ‏}‏ تدعون الإيمان ‏{‏وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ فهذا ما عملت أيديكم، وهذا ما استعجلتم به‏.‏

{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ حين يوفون أعمالهم يوم القيامة‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ‏}‏ أي‏:‏ العذاب الذي تخلدون فيه، ولا يفتر عنكم ساعة‏.‏ ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ من الكفر والتكذيب والمعاصي‏.‏

‏[‏53 ـ 56‏]‏ ‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}

يقول تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد، لا على وجه التبين والرشاد‏.‏

‏{‏أَحَقٌّ هُوَ‏}‏ أى‏:‏ أصحيح حشر العباد، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر‏؟‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهم مقسمًا على صحته، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان‏:‏ ‏{‏إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه‏.‏

{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ لله أن يبعثكم، فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا، كذلك يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالكم‏.‏

‏{‏و‏}‏ إذا كانت القيامة فـ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ‏}‏ بالكفر والمعاصي جميع ‏{‏مَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ من ذهب وفضة وغيرهما، لتفتدي به من عذاب الله ‏{‏لَافْتَدَتْ بِهِ‏}‏ ولما نفعها ذلك، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب، على الأعمال الصالحة والسيئة‏.‏

‏{‏وَأَسَرُّوا‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ الذين ظلموا ‏{‏النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ‏}‏ ندموا على ما قدموا، ولات حين مناص، ‏{‏وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‏}‏ أي‏:‏ العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه‏.‏

{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ‏}‏ يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري، وسيحكم فيهم بحكمه الجزائي‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ فلذلك لا يستعدون للقاء الله، بل ربما لم يؤمنوا به، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية‏.‏

{‏هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ أي‏:‏ هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع التدبير ، لا شريك له في ذلك‏.‏

‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها‏.‏

‏[‏57 ـ 58‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}

يقول تعالى ـ مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها‏.‏

{‏وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة‏.‏

وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه‏.‏

وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين‏.‏

وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده‏.‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فالهدى هو العلم بالحق والعمل به‏.‏

والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين‏.‏

وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور‏.‏

ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ‏}‏ الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده ‏{‏وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته‏.‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ من متاع الدنيا ولذاتها‏.‏

فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب‏.‏

وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال ‏[‏تعالى عن‏]‏ قوم قارون له‏:‏ ‏{‏لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ‏}‏ ‏.‏

وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ‏}

‏[‏59 ـ 60‏]‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ‏}

يقول تعالى ـ منكرًا على المشركين، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه ـ ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ‏}‏ يعني أنواع الحيوانات المحللة، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم‏.‏ ‏{‏فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا‏}‏ قل لهم ـ موبخا على هذا القول الفاسد ـ ‏:‏ ‏{‏آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ‏}‏ ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعلم أنهم مفترون‏.‏

{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ أن يفعل الله بهم من النكال، ويحل بهم من العقاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ‏}‏ ‏.‏

{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ‏}‏ كثير، وذو إحسان جزيل، وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون، إما أن لا يقوموا بشكرها، وإما أن يستعينوا بها على معاصيه، وإما أن يحرموا منها، ويردوا ما منَّ الله به على عباده، وقليل منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة، ويثني بها على الله، ويستعين بها على طاعته‏.‏

ويستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة الحل، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده‏.‏

‏[‏61‏]‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}

يخبر تعالى، عن عموم مشاهدته، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ‏}‏ أي‏:‏ حال من أحوالك الدينية والدنيوية‏.‏ ‏{‏وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ‏}‏ أي‏:‏ وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك‏.‏

{‏وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ‏}‏ صغير أو كبير ‏{‏إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به‏.‏

فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم‏.‏

{‏وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ ما يغيب عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته ‏{‏مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه‏.‏

وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر، كثيرًا ما يقرن الله بينهما، وهما‏:‏ العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}

‏[‏62 ـ 64‏]‏ ‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}

يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال‏.‏

{‏وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى‏.‏

ثم ذكر وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي‏.‏

فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله ‏[‏تعالى‏]‏ وليًا، و ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ‏}

أما البشارة في الدنيا، فهي‏:‏ الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق‏.‏

وأما في الآخرة، فأولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}

وفي القبر ما يبشر به من رضا الله تعالى والنعيم المقيم‏.‏

وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم‏.‏

{‏لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ‏}‏ بل ما وعد الله فهو حق، لا يمكن تغييره ولا تبديله، لأنه الصادق في قيله، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه‏.‏

{‏ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور، والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى‏.‏

والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده‏.‏

‏[‏65‏]‏ ‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}

أي‏:‏ ولا يحزنك قول المكذبين فيك من الأقوال التي يتوصلون بها إلى القدح فيك، وفي دينك فإن أقوالهم لا تعزهم، ولا تضرك شيئًا‏.‏ ‏{‏إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ يؤتيها من يشاء، ويمنعها ممن يشاء‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ فليطلبها بطاعته، بدليل قوله بعده‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}

ومن المعلوم، أنك على طاعة الله، وأن العزة لك ولأتباعك من الله ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ أي‏:‏ سمعه قد أحاط بجميع الأصوات، فلا يخفى عليه شيء منها‏.‏

وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر والبواطن، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، في السماوات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏.‏

وهو تعالى يسمع قولك، وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلا، فاكتف بعلم الله وكفايته، فمن يتق الله، فهو حسبه‏.‏

‏[‏66 ـ 67‏]‏ ‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَْ‏}

يخبر تعالى‏:‏ أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا، يتصرف فيهم بما شاء من أحكامه، فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون، لا يستحقون شيئًا من العبادة، وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ‏}‏ الذي لا يغني من الحق شيئًا ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ‏}‏ في ذلك، خرص كذب وإفك وبهتان‏.‏

فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة، فلن يستطيعوا، فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق، أو يملك شيئًا من المخلوقات، أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس‏؟‏‏.‏

و‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ‏}‏ في النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض، فلو استمر الضياء، لما قروا، ولما سكنوا‏.‏

‏{‏و‏}‏ جعل الله ‏{‏النَّهَارَ مُبْصِرًا‏}‏ أي‏:‏ مضيئًا، يبصر به الخلق، فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم‏.‏

{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم‏.‏

‏[‏68 ـ 70‏]‏ ‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}

يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين ‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا‏}‏ فنزه نفسه عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ‏}‏ أي‏:‏ تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا، ثم برهن على ذلك، بعدة براهين‏:‏

أحدها‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الْغَنِيُّ‏}‏ أي‏:‏ الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد‏؟‏

ألحاجة منه إلى الولد، فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه‏.‏

البرهان الثاني، قوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض، الجميع مخلوقون عبيد مماليك‏.‏

ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا‏.‏ فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة‏.‏

البرهان الثالث، قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا‏}‏ أي‏:‏ هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا، فلو كان لهم دليل لأبدوه، فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه‏.‏ وأن ذلك قول بلا علم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ فإن هذا من أعظم المحرمات‏.‏

{‏قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم مقصودهم، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم، في الدنيا، قليلاً، ثم ينتقلون إلى الله، ويرجعون إليه، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏.‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}

‏[‏71 ـ 73‏]‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى لنبيه‏:‏ واتل على قومك ‏{‏نَبَأَ نُوحٍ‏}‏ في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل، ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ إن كان مقامي عندكم، وتذكيري إياكم ما ينفعكم ‏{‏بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق‏.‏ ‏{‏فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ أي‏:‏ اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي‏.‏ وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع العَدَدَ والعُددَ‏.‏

‏{‏فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ‏}‏ كلكم، بحيث لا يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا من مجهودكم شيئًا‏.‏

‏{‏و‏}‏ أحضروا ‏{‏شُرَكَاءَكُمْ‏}‏ الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين‏.‏

{‏ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏}‏ أي‏:‏ مشتبهًا خفيًا، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية‏.‏

{‏ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ‏}‏ أي‏:‏ اقضوا علي بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، ‏{‏وَلَا تُنْظِرُونِ‏}‏ أي‏:‏ لا تمهلوني ساعة من نهار‏.‏ فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه‏.‏

وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم‏.‏ وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم‏:‏ اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك‏.‏

فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ عن ما دعوتكم إليه، فلا موجب لتوليكم، لأنه تبين أنكم لا تولون عن باطل إلى حق، وإنما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته، إلى باطل قامت الأدلة على فساده‏.‏

ومع هذا ‏{‏فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ على دعوتي، وعلى إجابتكم، فتقولوا‏:‏ هذا جاءنا ليأخذ أموالنا، فتمتنعون لأجل ذلك‏.‏

{‏إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لا أريد الثواب والجزاء إلا منه، ‏{‏و‏}‏ أيضًا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده، بل ‏{‏أمرت أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ فأنا أول داخل، وأول فاعل لما أمرتكم به‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ بعد ما دعاهم ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا، ‏{‏فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ‏}‏ الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا، وقلنا له إذا فار التنور‏:‏ فـ ‏{‏احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ‏}‏ ففعل ذلك‏.‏

فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونًا، فالتقى الماء على أمر قد قدر‏:‏ ‏{‏وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ‏}‏ تجري بأعيننا، ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ‏}‏ في الأرض بعد إهلاك المكذبين‏.‏

ثم بارك الله في ذريته، وجعل ذريته، هم الباقين، ونشرهم في أقطار الأرض، ‏{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ بعد ذلك البيان، وإقامة البرهان، ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ وهو‏:‏ الهلاك المخزي، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم، لا تسمع فيهم إلا لوما، ولا ترى إلا قدحًا وذمًا‏.‏

فليحذر هؤلاء المكذبون، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين من الهلاك، والخزي، والنكال‏.‏

‏[‏74‏]‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ‏}

أي‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا‏}‏ من بعد نوح عليه السلام ‏{‏رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ‏}‏ المكذبين، يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم من أسباب الردى‏.‏

‏{‏فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ أي‏:‏ كل نبي أيد دعوته، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به‏.‏

{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ أن الله تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول، فبادروا بتكذيبه، طبع الله على قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}

ولهذا قال هنا‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ نختم عليها، فلا يدخلها خير، وما ظلمهم ‏[‏الله‏]‏، ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم، وتكذيبهم الأول‏.‏

‏[‏75‏]‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ إلى آخر القصة‏.‏

أي‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا‏}‏ من بعد هؤلاء الرسل، الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين‏.‏

‏{‏مُوسَى‏}‏ بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة‏.‏

‏{‏و‏}‏ جعلنا معه أخاه ‏{‏هَارُونَ‏}‏ وزيرًا بعثناهما ‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ‏}‏ أي‏:‏ كبار دولته ورؤسائهم، لأن عامتهم، تبع للرؤساء‏.‏

‏{‏بِآيَاتِنَا‏}‏ الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى، ‏{‏فَاسْتَكْبَرُوا‏}‏ عنها ظلمًا وعلوًا، بعد ما استيقنوها‏.‏

{‏وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ وصفهم الإجرام والتكذيب‏.‏

‏[‏76‏]‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا‏}

الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها، وهو من عند الله الذي خضعت لعظمته الرقاب، وهو رب العالمين، المربي جميع خلقه بالنعم‏.‏

فلما جاءهم الحق من عند الله على يد موسى، ردوه فلم يقبلوه، و ‏{‏قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ لم يكفهم ـ قبحهم الله ـ إعراضهم ولا ردهم إياه، حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر‏:‏ الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرًا مبينًا، ظاهرًا، وهو الحق المبين‏.‏ ولهذا ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم ‏{‏مُوسَى‏}‏ ـ موبخا لهم عن ردهم الحق، الذي لا يرده إلا أظلم الناس‏:‏ ـ ‏{‏أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أتقولون إنه سحر مبين‏.‏

‏{‏أَسِحْرٌ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ فانظروا وصفه وما اشتمل عليه، فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحق‏.‏ ‏{‏وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ‏}‏ لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح‏.‏ وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة‏.‏

‏[‏78‏]‏ ‏{‏قَالُوا‏}‏ لموسى رادين لقوله بما لا يرده‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا‏}‏ أي‏:‏ أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك وعبادة غير الله، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له‏؟‏ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام‏.‏

وقولهم ‏:‏ ‏{‏وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أرضنا‏.‏ وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به‏.‏

وهذا لا يحتج به، من عرف الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين‏.‏

وأما من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه، لأنه لو كان له حجة لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله‏:‏ قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين، هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم‏.‏

ولكن حقيقة الأمر، كما نطقوا به بقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون‏.‏

‏[‏79‏]‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ معارضًا للحق، الذي جاء به موسى، ومغالطًا لملئه وقومه‏:‏ ‏{‏ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ ماهر بالسحر، متقن له‏.‏ فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم‏.‏

{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ‏}‏ للمغالبة مع موسى ‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء أردتم، لا أعين لكم شيئًا، وذلك لأنه جازم بغلبته، غير مبال بهم، وبما جاءوا به‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَلْقَوْا‏}‏ حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ ‏{‏قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ‏}‏ أي‏:‏ هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا‏؟‏‏!‏‏!‏

وهكذا كل مفسد عمل عملاً، واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق‏.‏

وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم‏.‏

‏[‏82‏]‏ ‏{‏وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق‏.‏ فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم‏.‏

وأما فرعون وملؤه، وأتباعهم، فلم يؤمن منهم أحد، بل استمروا في طغيانهم يعمهون‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ شباب من بني إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان‏.‏

{‏عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ‏}‏ عن دينهم ‏{‏وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ له القهر والغلبة فيها، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته‏.‏

‏{‏و‏}‏ خصوصًا ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ كان ‏{‏لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ المتجاوزين للحد، في البغي والعدوان‏.‏

والحكمة ـ والله أعلم ـ بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم ـ بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة ـ أبعد من الحق من غيرهم‏.‏

‏[‏84‏]‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ موصيًا لقومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ‏}‏ فقوموا بوظيفة الإيمان‏.‏

{‏فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه واستنصروه‏.‏

‏[‏85‏]‏ ‏{‏فَقَالُوا‏}‏ ممتثلين لذلك ‏{‏عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون‏:‏ لو كانوا على حق لما غلبوا‏.‏

‏[‏86‏]‏ ‏{‏وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏ لنسلم من شرهم، ولنقيم ‏[‏على‏]‏ ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه، وإظهاره من غير معارض، ولا منازع‏.‏

‏[‏87‏]‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ‏}‏ حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم‏.‏

‏{‏أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا‏}‏ أي‏:‏ مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون‏]‏به‏[‏من الاستخفاء فيها‏.‏

{‏وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً‏}‏ أي‏:‏ اجعلوها محلا، تصلون فيها، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ فإنها معونة على جميع الأمور، ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، وحين اشتد الكرب، وضاق الأمر، فرجه الله ووسعه‏.‏

فلما رأى موسى، القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه، فقال‏:‏

‏[‏88‏]‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً‏}‏ يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب، والبيوت المزخرفة، والمراكب الفاخرة، والخدام، ‏{‏وَأَمْوَالًا‏}‏ عظيمة ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ‏}‏ أي‏:‏ إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على الإضلال في سبيلك، فيضلون ويضلون‏.‏

{‏رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أتلفها عليهم‏:‏ إما بالهلاك، وإما بجعلها حجارة، غير منتفع بها‏.‏

{‏وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ قسها ‏{‏فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}

قال ذلك، غضبًا عليهم، حيث تجرؤوا على محارم الله، وأفسدوا عباد الله، وصدوا عن سبيله، ولكمال معرفته بربه بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا، بإغلاق باب الإيمان عليهم‏.‏

‏[‏89‏]‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى ‏{‏قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا‏}‏ هذا دليل على أن موسى، ‏[‏كان‏]‏ يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، وأن الذي يؤمن، يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء‏.‏

‏{‏فَاسْتَقِيمَا‏}‏ على دينكما، واستمرا على دعوتكما، ‏{‏وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم، فأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلاً، وأخبره أنهم يتبعون، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ‏}‏ أي‏:‏ موسى وقومه‏:‏ ‏{‏لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ‏}

فجمع جنوده، قاصيهم ودانيهم، فأتبعهم بجنوده، بغيًا وعدوًا أي‏:‏ خروجهم باغين على موسى وقومه، ومعتدين في الأرض، وإذا اشتد البغي، واستحكم الذنب، فانتظر العقوبة‏.‏

‏[‏90‏]‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ‏}‏ وذلك أن الله أوحى إلى موسى، لما وصل البحر، أن يضربه بعصاه، فضربه، فانفلق اثنى عشر طريقًا، وسلكه بنو إسرائيل، وساق فرعون وجنوده خلفه داخلين‏.‏

فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر، وفرعون وجنوده داخلين فيه، أمر الله البحر فالتطم على فرعون وجنوده، فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون‏.‏

حتى إذا أدرك فرعون الغرق، وجزم بهلاكه ‏{‏قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏}‏ وهو الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو ‏{‏وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى‏.‏

‏[‏91‏]‏ قال الله تعالى ـ مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له ـ ‏:‏ ‏{‏آلْآنَ‏}‏ تؤمن، وتقر برسول الله ‏{‏وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ بارزت بالمعاصي، والكفر والتكذيب ‏{‏وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم، صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع، إنما هو الإيمان بالغيب‏.‏

‏[‏92‏]‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً‏}

قال المفسرون‏:‏ إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم، من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشكوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية‏.‏

{‏وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ‏}‏ فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها‏.‏

وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل‏.‏

‏[‏93‏]‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ‏}

أي‏:‏ أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون، وأورثهم أرضهم وديارهم‏.‏

{‏وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ من المطاعم والمشارب وغيرهما ‏{‏فَمَا اخْتَلَفُوا‏}‏ في الحق ‏{‏حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ‏}‏ الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى بعضهم على بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير‏.‏

{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام، وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح‏.‏

وهو‏:‏ أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين‏.‏

وإلا فإذا كان ربهم واحدًا، ورسولهم واحدًا، ودينهم واحدًا، ومصالحهم العامة متفقة، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم ونظامهم، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم، بسبب ذلك ما يموت‏؟‏‏.‏

فنسألك اللهم، لطفًا بعبادك المؤمنين، يجمع شملهم ويرأب صدعهم، ويرد قاصيهم على دانيهم، يا ذا الجلال والإكرام‏.‏

‏[‏94 ـ 95‏]‏ ‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}

يقول تعالى لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ هل هو صحيح أم غير صحيح‏؟‏‏.‏

{‏فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ اسأل أهل الكتب المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم، فإن قيل‏:‏ إن كثيرًا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه، وردوا عليه دعوته‏.‏

والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانًا على صدقه، فكيف يكون ذلك‏؟‏

فالجواب عن هذا، من عدة أوجه‏:‏

منها‏:‏ أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم‏.‏

وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، ك ـ ‏"‏عبد الله بن سلام‏"‏ ‏[‏وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه، ومن بعده‏]‏ و ‏"‏كعب الأحبار‏"‏ وغيرهما‏.‏

ومنها‏:‏ أن شهادة أهل الكتاب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه‏.‏

فإذا كان موجودًا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول‏.‏

ومنها‏:‏ أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد‏.‏

ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله، لأبدوه وأظهروه وبينوه، فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه ليس أكثر أهل الكتاب، رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاد طوعًا واختيارًا، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب ‏.‏

فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر، والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، ولم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة، ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل، وإنما انتسبوا للدين المسيحي، ترويجًا لملكهم، وتمويهًا لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏}

‏[‏95‏]‏ ‏{‏وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين‏:‏ الشك في هذا القرآن والامتراء فيه‏.‏

وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلاً، وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملاً‏.‏

فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار‏.‏